هادي جلو مرعي
إنشغلت زميلتي الدكتورة سهام الشجيري بقضية إعلامية مهمة تعنى بانحياز وسائل الإعلام، ورصدت هذا الأمر لسنوات، خرجت منها بملاحظات مهمة، طالما أرقتها في ترتيب أولويات الموضوعات الإعلامية المختلفة، وها هو كتابها (التحيز في التناول الإعلامي/ بناء نموذج تفسيري لتحيزات وسائل الإعلام) الذي صدر عن دار حميثرى للترجمة والنشر في مصر، 2019، بأكثر من 575 صفحة، قد أسست فيه الافكار المتعلقة بالتحيز، واستطاعت بناء نموذج تفسيري لتحيزات الخطاب الإعلامي.
في هذا الكتاب رصدت الشجيري ظاهرة التحيز الإدراكي للتناول الإعلامي، من أجل التعرف على خصائص موضوعة التحيز الادراكي وعلاقته بمنظومة القيم المهنية، ووصف ظاهرة التحيز من خلال جمع المعلومات عنها بدقة، إذ تشير الدراسات في مجال الإعلام، إلى غياب المعايير الموضوعية لقياس الأداء المهني للإعلاميين والصحفيين في معظم المؤسسات الإعلامية والصحفية، فضلاً عن عدم توافر ضمانات ممارسة المهنة من خلال تفعيل التشريعات التي تحقق الحماية المهنية للصحفيين، وهو ما دعانا لطرح مفهوم التحيز في التناول الإعلامي، ومحاولة بناء نموذج تفسيري لتحيزات وسائل الإعلام، إذ أن إشكالية التحيز الإعلامي وخاصة التحيز الادراكي منه تتمحور في علاقتها بمنظومة القيم المهنية وفق مجموعة من المعايير المتعلقة بهذه القيم، وقدرة الوسيلة الإعلامية على التلاعب والتزوير، وقابلية بعض المحطات الإعلامية على شنق الحقيقة، ورفع السوط الإعلامي عالياً بوجه الضحية أكثر من أي جلاد سياسي آخر، ومحاولة تبشيع الخصم وأبلسته، إلى الحد الذي يصبح الإعلامي معه مثل المفتي الذي يشرعن قتل الشعوب وإبادتها، لكن الافتقار إلى الكفاءة والخبرة، بل وغياب المهنية التي تتعلق بمهارات الصحافيين عموماً، هو من جعل التحيز يأخذ دوره الكبير في التناول الإعلامي، وثمة أيضا غياب التخطيط الاستراتيجي، المتخصص بالعملية الإعلامية، مع غياب واضح لمعايير الجودة، التي يمكن من خلالها تأشير أطر التحيز الإعلامي، وتصحيحها من أجل حماية المنتَج الإعلامي، من الانزلاق في متاهات الفوضى، فالوظيفة الإخبارية لوسائل الإعلام تستهدف إحاطة الجمهور علماً بالأحداث بطريقة موضوعية ونزيهة تعاونه على تكوين رأي عام متبصر، إلا أن الممارسات الإخبارية تكشف عن صعوبة الفصل بين الرأي وبين الحقيقة حيث تستخدم وسائل الإعلام كل وسيلة ممكنة لتبدو الآراء وكأنها حقائق، كما ان انخفاض مصداقية وسائل الإعلام أصبح يشكل قلقاً متزايداً للمهتمين بأخلاقيات الإعلام وللمهنيين على وجه السواء، إذ أن تحيز القائمين بالاتصال يؤثر على شكل ومضمون التغطية للقضايا المثارة، علاوة على ذلك تلجأ وسائل الإعلام إلى الإفراط في نشر الأخبار السيئة وقصص الإثارة من أجل زيادة التوزيع، فضلا من أن الصحفيين يدركون بشكل مقصود أم غير مقصود التحيز تجاه هذا الطرف او ذاك ممن ينصب التناول الإعلامي على أحداثهم ووقائعهم، وعدم التقيد بالضوابط، والمعايير، والجدوى، والتخطيط الاستراتيجي، والمهنية، التي تتعلق بنقل الخبر، أو التقرير، أو التحقيق، أو المقال، أو الفيلم الوثائقي، أو غيره مما ينتمي إلى الفنون الإعلامية المختلفة، التقليدية منها والالكترونية، بصورة موضوعية وبحياد تام، فالتعتيم على مصدر الخبر، مثلا، ودرجة الوثوق منه، لا تزال واضحة في المشهد، وربما تحدث بصورة متواصلة، والسبب كما هو واضح، غياب المهنية، والاحتراف في العمل الصحفي واستسهاله، بعدم التزام الإعلام بنقل الأحداث بحيادية أقرب ما يمكن للواقع بسبب الميول السياسية أو الإيديولوجية، وتكريس التحيز وفق هذه الإيديولوجيا، والقبول بفكرة الرأي والرأي الآخر، واحترام الرأي الآخر، لأن دور الإعلام عموماً، ليس التحيز بإدراك تام ولا تشويش ولا تلوين ولا التشويه، ولكن نقل الصورة بـكافة جوانبها، وهو ما تفتقده، لأنها تتحرك وفق غايات القائمين عليها، وآراءهم وتوجهاتهم، وتأكيد دور الإعلام في تنمية فكر المتلقي وتعريفه بما يدور حوله من أحداث، دون أن يكون الإعلام طرفاً في الصراع، فمن المفترض أن الصحافي يقوم بعرض وجهات النظر المطروحة دون أن يعبر عن وجهة نظره الشخصية، لكن ما يحدث في وسائل الإعلام تجاه مختلف الأحداث، هو أن كثيرا من الصحافيين يقدم نفسه لخدمة فصيل سياسي أو أيديولوجي معين، فيعمل كل ما يستطيع فعله ليكون في مصلحة هذا الفصيل، وغالبا تكون مقابل ثمن وهذا سبب ما نحن فيه من خلل في المنظومة المهنية للإعلام، لذلك فأن التناول الصحفي كثيرا ما يكون تناولا شديد التحيز وبعيد عن الدقة والموضوعية، والنزاهة، ووفق هذه المعطيات فمن الضروري إدراج قضية التحيز والموضوعية والحياد في الدراسات والأداء الإعلامي ضمن أولويات التناول الصحفي، فضلا عن إنشاء مراكز بحوث خاصة بمراقبة الأداء الإعلامي، ومعنية بوضع ضوابط علمية، يمكن قياس أثرها للتعاطي مع المنتج الإعلامي، بشكل يراعي أهمية الضوابط، ويستفيد من الخبرات، ويتوافق مع خصوصية ومتطلبات البيئة ويستجيب لرغبات وحاجات الجمهور ويحقق إشباعاتهم، ولذلك لا تتطلب الصحافة من أبناء المهنة أن يكونوا مجرد حرفيين مهرة أو خبراء متمكنين من أدوات المعرفة فحسب، بل تحتم عليهم التمسك بالضمير المهني والالتزام الذاتي بالصدق والموضوعية والأمانة، وبشفافية عالية، وحيادية تامة والتفريط فيها يعرض جوهر المهنة إلى الفوضى.
ونبهت الشجيري الى إن الخطأ الذي تقع فيه بعض وسائل الإعلام أن موادها موجهة أما للموالين لها ليزدادوا ولاء، أو للرافضين لها ليزدادوا رفضا، فيما ينبغي أن تكرس جهدها لاجتذاب القطاع المحايد والذي لايزال لم يشكل موقفا أو رؤية، إذ أن بعض وسائل الإعلام على اختلافها (المقروءة والمسموعة والمرئية، والالكترونية) تتصور أن متبنياتها بما إنها صحيحة فلا تكرس إلا رؤيتها، ولا تفرد مجالاً واسعاً للرأي والرأي الآخر أو على الأقل التظاهر بالحيادية، لكي لا تخسر المزيد من جمهورها، متجاهلة حقيقة أن لكل فكرة جانبي الصحة والصلاحية، كما أن الإعلام لم يعد يتوجه إلى كتلة بشرية أو شريحة معينة، بل صار محددا وموجها، وقد أظهرت دراسات عديدة تحيزاً في الأخبار، وهذا التحيز مهما كان دافعه يشوه صورة الواقع، وبعض الباحثين والمختصين عد التحيز وهم وآخر عده تهمة فيما تساءل آخرون عن ماهية المفهوم من تهمة “تحيّز الإعلام” فيما أنكر غيرهم أن يكون هناك حياداً تجاه قضايا مهمة كالأمن القومي والوطني مثلا فلا حياد مع المخاطر الذي يتعرض لها أمن البلد، كما لا حياد مع خطاب المصالح والمنافع، وتلعب وسائل الإعلام دوراً رئيساً وفاعلاً في تشكيل سياق التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في المجتمعات المختلفة، حيث تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير، ويتوقف إسهام ودور وسائل الإعلام في عملية الإصلاح السياسي الديمقراطي على شكل ووظيفة تلك الوسائل في المجتمع وحجم الحريات، وتعدد الآراء والاتجاهات داخل هذه المؤسسات، بجانب طبيعة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية المتأصلة في المجتمع، فطبيعة ودور وسائل الإعلام في تدعيم الديمقراطية، وتعزيز قيم المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، يرتبط بفلسفة النظام السياسي الذي تعمل في ظله، ودرجة الحرية التي تتمتع بها داخل البناء الاجتماعي، وأصبح الاهتمام بوسائل الإعلام ومضمونها أمراً بالغ الأهمية، وإذا ما سلمنا بأن الإعلام بحد ذاته هو عملية تزويد الناس بالأخبار والمعلومات والحقائق الثابتة، فكيف يمكن الحكم على صحة وثبوت حقيقة معينة من جهتين متناقضتين؟ فكل جهة تنظر إلى الأشياء بمنظورها الخاص المتطابق مع مصالحها الاقتصادية والسياسية!
ويهدف الكتاب إلى معرفة التحيز الذي ولد مصطلحه على يد المفكر الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري، كما افردت الشجيري فصلا كاملا عن توضيح ذلك، ودور المسيري في التركيز على كل ما يتعلق بالتحيز، وأنواعه وأنماطه وسماته في وسائل الإعلام المختلفة، والوقوف على حقيقة أداء وسائل الإعلام، وتعريف وسائل الإعلام بآراء الجماهير فيها، بحيث لا تحيد عن الشفافية والحيادية، والقضاء على العقبات التي تعرقل أداءها، وإتاحة حرية تداول المعلومات، ويكفل للإعلاميين الحصول عليها بشكل مباشر ومن مصادرها الشرعية، وإشاعة قيم الشفافية والحيادية في التعامل مع الأحداث، فالإعلام ليس مجرد ناقل محايد، بل يؤثر ويتأثر في ظل سياق تساهم الأحداث المهمة في دفعه للأمام لأجل الاستجابة للمتغيرات بمرونة تامة، وعبر العصور الزمنية نلاحظ توثق العلاقة بين الفعل الثقافي والنشاط الإعلامي، وهو ما اهتمت به الشجيري في محاولتها لبناء نموذج للتفسير ولفهم التناول الإعلامي بغية الخلاص من التحيز تجاه هذا الطرف أو ذاك، ودعت إلى تكوين هيئات رقابية من الناس تراقب وسائل الإعلام وتنشر تقاريرها عن المغالطات والتحيزات فيها شبيهة بهيئة الصدق والدقة في التقارير الإخبارية في بعض وسائل الإعلام الأمريكية، ويتألف الكتاب من تسعة فصول، تناول الفصل الأول تأصيل لمفهوم التحيز، وتخصص الفصل الثاني بالتحيز كمقاربة أولية، فيما تناول الفصل الثالث التحيز أنواعه وأنماطه وسماته، أما الفصل الرابع فتحدث عن القيم المهنية ذات العلاقة بالتحيز الإعلامي، وكان الفصل الخامس قد تطرق إلى التحيز في التغطية الإعلامية، وتناول الفصل السادس التحيزات الشخصية للإعلاميين، اما الفصل السابع فقد تناول التحيز في الخطاب الإعلامي، فيما تناول الفصل الثامن التحيز اللغوي، والفصل التاسع تناول تحيز الصورة والصورة المتحيزة، التوفيق لزميلتي المبدعة وبانتظار صدور كتابها المهم، عن النظرية الفرعونية في وسائل الإعلام.