د. شادي الكفارنة
يحلم الشباب المقبلون على الزواج تحقيق حلمهم في زواج تاريخي مميز حتى تتحقق سعادتهم الإنسانية؛ ولكن جاءت حرب الإبادة الجماعية على غزة، و أخرجتهم عن المألوف الاجتماعي للزواج الإنساني، مما جعل الناس تمارس عاداتهم وتقاليدهم حسب ظروفهم ، لكن التساؤل…
لماذا أقبل الناس على الزواج في هذه الظروف الحرجة؟ وما الذي حصل في هذه الحرب؟
لقد فقد الناس معايير اختيار الزواج ، وغاب عندهم تحديد تساوي المكانة الاجتماعية بين الزوجين وتوحيد معيار الجمال الذي تساوت فيه الإناث واحدًا موحدًا في أشكالهنَّ من بؤس الحرب وقسوة الظروف وألم الفقد والفجع، وتساوى المستوى الاقتصادي الفقير والغني تجمعهم خيمة واحدة دون تكاليف الزواج، والمستوى العلمي المعلق حتى إشعار آخر ، وإن كل الناس أصبحوا سواسية في معايير الزواج لا فرق بينهم في الحرب وإنهم أصحاب هم واحد يجمعهم الموت ويخطفهم في أي لحظة.
لقد طال أمد الحرب ؛ مما جعل الناس تضطر إلى الزواج في خيمة دون تنفيذ مراسم الزواج، ومحاولة العيش في ظروف الموت، هناك من كان مرتبطًا خاطبًا ينتظر فرحته بعمل حفل زفافه ويحلم أن يتحقق حلم العمر ، ولكن جاءت الحرب وحطمت كل الأحلام وقتلت كل الآمال وتزوج الطرفان في خيمة صغيرة بدل الأحلام الكبيرة، وهناك من اختار الشريك في إيواء النزوح وتجمعات التخييم ، كل المعاير تغيرت ، كل المقاييس تحولت ،كل الشروط تبدلت في زمن الحرب حتى أصبح الزواج حرجاً كما الظروف الحرجة.
كيف تعرف الزوجان على بعضهما؟ هل التقيا في طوابير تعبئة المياه كما كان يتعرف الأزواج في عصور زمنيّة عابرة أم أنهما جيران في خيمة المعاناة؟
هل شاهدا بعضهما في زحمة طوابير حمامات المياه أم في طوابير استلام المعلبات الغذائية التكية؟
هل تبادلا النظرة تحت وابل القصف اليومي وأثناء التهجير القسري أم جمعتهما جروحهما في حرب الإبادة؟
هل جمعهما قدر الموت لذويهم وأحبتهم في مقبرة تجميع الأشلاء المرمية والجثث المنسية أم أنهما قد يكونان الميتيْنِ؟
لقد أصبح الزواج دون معالم حقيقية ، تنحى الزواج العلني واستبدل بالقتل العلني ، أصبح
زواجًا دون حب علني مصرح به، وزواجًا صامتًا مكتومًا خجولًا في إيواء منتهك الخصوصيات،
كل مراسم الفرح تبدلت ، فالعروسة بدلًا من أن ترتدي فستانًا أبيضَ ارتدت ازدالًا أسودَ بلون الحرب السوداء (البرنص) ، وبدًلا من أن تطلي أظافرها بكل الألوان والأشكال، توشحت أظافرها باللون الأسود من فحم النار، وكفوف اليدين المحروقة من كل الأماكن وأطراف الأصابع من إشعال النار ، وأيدي مجرحة وممزقة من تكسير الحطب وجلي أواني الطبخ السوداء من لهب النار ، والخشنة من حمل قالونات مياه الشرب من مسافة كبيرة، بدل من نقوش الحناء وزخرفاتها، لقد أصبح زواجًا بصوت الانفجارات التي تهز المكان بدلًا من سماع أغاني وزغاريد الأفراح، زواجًا معدود الحضور بدلًا من الحشود المهنئة حلت فيه أخبار الحرب وعدد الموتى بدلاً من التبريكات والتهاني، زواجًا ممزوجًا بعلقم المرار وجوع البطون بدلًا من حلوى الفرح وغذاء مائدة طعام الأفراح ، زواجًا يملؤه حزنًا واسع المدى بدلًا من الفرح بهذا اليوم التاريخي ، زواجًا زينته أحبال غسيل معلقة بين الخيام وفوق أكوام رماد النار المشتعلة أو المطفية بدلًا من أحبال الزينة الوردية ، زواجًا بدلًا من رائحة البخور والعطور بكل روائحها نشم رائحة الصرف الصحي ودخان النار الذي يملأ كل الخيام لطهي الطعام وعدم توفير الغاز تكاد لا ترى من بجانبك في الخيمة من كثافة الدخان التي عمت عيوننا ، زواجًا إضاءته لهب انفجارات الصواريخ تزينه الطائرات بكل أشكالها وأنواعها النارية اللامعة المضيئة في قصفنا على مدار الساعة بدلًا من زينة الأفراح المضيئة الملونة،
زواجًا حزينًا دون ابتسامة خوفًا من إظهار مشاعر السعادة لنراعي مشاعر الثكالى والأطفال الأيتام والنساء والرجال الأرامل وكل من فقد حبيبًا، ورغم كل ذلك إلا أننا نصرُّ على الحياة ونحبها ونتحدى ظروفها ، فمن الآلام تخرج الآمال والحياة ستستمر بزواج إنساني يتماشى مع ظروف الحرب رغم صعوبتها ، وستتم مراسم الزواج ولو بكبرياء جريح ، لنبارك ونشارك من تزوج في هذه الظروف الحرجة آملين أن تنتهي حرب الإبادة وتعود معايير الزواج في ظروف فرحة لا حرجة، ويَسعد كل من بقي على قيد الحياة الإنسانية ، ونغني سويًّا ” على الله تعود بهجتنا والأفراح”.