زينب فخري
لم يخطر ببال المجاهد الليبي عمر المختار حين اطلق مقولته الشهيرة: “نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت”، “وسوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم”.. بوجه المحتل الايطالي قبل اعدامه في 1931 أن الأعداء لن يتخذوا الحروب وسيلة لمواجهة الخصم.. وسيبتكرون وسائل أخرى أكثر فعالية وتأثيراً، منها: التخريب.
والتخريب قد يكون ذاتياً أو مجتمعياً، وقد يكون عبثياً أو مخططاً له، فهو يبدأ بأفراد ما يلبث أن ينتشر في المجتمع ليؤثر عليه بأكمله.
وهذا التخريب قد يخضع لفلسفة كبيرة لها مَنْ يصوغها ويخطط لها، ولعلَّ أوَّل مَنْ صاغ أساليب التخريب هو الفيلسوف الصيني (صان تزو) الذي اشتهر عنه مقولات عديدة بهذا الشأن.
فالتخريب الذي قصده (صان تزو) هو تخريب أرض العدو وحضارته وانجازاته دون إطلاق رصاصة واحدة بل لن يعدّ العدو يراك كخصم له!
فسياسة الحرب يراها سبيلاً فاشلاً وغير إبداعي لتخريب وتدمير العدو بل إعلان الحرب بالنسبة له من الغباء، فأعلى فنون القتال هو عدم القتال والانجرار للحرب؛ فلها نتائج عكسية وسلبية. لذا فالحرب الناجحة بالنسبة للفيلسوف الصيني والخبير العسكري (صان تزو) تخريب كلّ شيء في أرضه.
والتخريب يعتمد على مراحل زمنية محكمة: أوَّل مرحلة هي: اسقاط الأخلاق، لاسيما عند الفئة العمرية بين الـ 15 إلى 20 سنة، فلو غُيرت أخلاق هذه الفئة سيتغير أخلاق جيل كامل، فهو السنّ الذي تتشكل به الشخصية والايدلوجية والمفاهيم الإنسانية، ويكون التأثير عليهم بطرق عديدة كالدعاية والاتصال المباشر والإعلام. ثمَّ تُشن حملة على المفاهيم الفكرية النابعة من الدين، والتعليم، والإعلام، والثقافة. فالتخريب يكون بتسييس الدين والإتجار به والاستهزاء به، واستبدله بمعتقدات وطوائف وخرافات، فالمهم في هذه الاستراتيجية أن يبدأ الدين يتآكل تدريجياً بفعل اعتقاد الناس أنَّه شيء بدائي وخاص بالسذج.
بل يتضمن المنهج التخريبي استبدال كلّ ما هو أصلي بما هو وهمي مع التشجيع على الترفيه والتساهل بالقيم والتلاعب بها عن طريق الشعارات، وتشويه قضايا مهمة وخلق قدوات بائسة وبطولات زائفة.
أما فيما يخص التعليم فتصرف الناس عن تعلم أشياء حقيقية، فعَّالة وبنّاءة، واستبدال تعلم الفيزياء والكيماء والرياضيات والعلوم المفيدة بالحياة الجنسية وفنّ الطبخ وحرب المدن وأخبار الموضة.
أما تدمير الحياة الاجتماعية فيكون بتغيير كلّ ما له تقاليد بكلّ ما هو وهمي مع العمل على نزع المسؤولية والشعور بالمواطنة من المواطنين، واستبدال العلاقات الاجتماعية الحقيقية بين الجيران والأصدقاء بعلاقات وهمية افتراضية كالموجودة بالواقع الافتراضي.
ولتحقيق الخراب البنيوي ينتهك القانون والنظام والعلاقات الاجتماعية والأمن والسياسات الداخلية وقوانين التعامل مع الأجانب. ويشمل التدمير أيضاً الهيئات التي تكون عادة منتخبة من المجتمع، وتستبدل بهيئات مصطنعة يديرها رجال لم ينتخبوا أبداً، وأغلب الناس لا يريدونهم لكنهم موجودون ويتحكمون بحياتنا.
ومراحل التخريب هذه في أي بلد مستهدف ستخلق حركة في المجتمع، وإن كان أي المجتمع لا يخلو من حركة ولكنها عادة ما تكون غير منتظمة وليست باتجاه واحد؛ لذا ستوجه حركة المجتمع المستهدف بطريقة معينة ويسيطر عليها بشكل خاص باستخدام أدوات كمجرمين وقطاع طرق وسرّاق وخارجين عن القانون أو ناقمين على المجتمع أو عملاء مع وسائل إعلام موجهة ودعاية.. ويقول أحد الباحثين الغربيين في محاضرة عن حركة المجتمع أن هذه الحركة يمكن تشبيهها بحركة الخصمين في فنّ الدفاع عن النفس الياباني والصيني (سودو)، فمن المعروف في فنّ الدفاع أن الخصم الضعيف وصغير الحجم لا يواجه خصماً قوياً وثقيلاً؛ وسيكون من الصعب توجيه له ضربة، بل من السذاجة وغير المجدي مواجهة ضربته، وفي فنّ (سودو) على الخصم الضعيف أن يتجنب الضربة ثمَّ يمسك قبضة الخصم بقوَّة ويسحبه باتجاه حركته.
ففي المجتمع المستهدف ستوجه هذه الحركات بل سيمسك بها
باتجاه ما، وتستمر بها إلى الاتجاه الذي تريده، حتى تقود المجتمع إلى الانهيار والأزمة.
هذا هو أسلوب فنّ القتال الحديث.. فنّ التدمير الذي استهدف به العراق والكثير من الدول العربية..
فالكثير من الأعداء يرى كالفيلسوف الصيني أنَّ الإبقاء على أمة نائمة غير فعالة وعلى جيش نائم غير فعال أفضل من خوض الحروب.
ويقول الجنرال الصيني (المتوفى عام 496 قبل الميلاد) في مقالاته العسكرية الاستراتيجية التي حملت اسم كتاب فنّ الحرب: إنّ فنّ الحرب ذو أهميّة بالغة للدولة؛ إنها قضيّة حياة أو موت، وهي طريقٌ إمّا للبقاء أو للاندثار؛ لذا فهو موضوع خطير، ولا يمكن إهماله مهما كانت الأسباب.
وربّما الحلّ الوحيد لمواجهة هذا التخريب والتدمير المخطط
هو التثقيف الذاتي والتسلح بالحركة المضادة ضدّ حركة المجتمع نحو التخريب.. وتحصين الذات.
ومن المفيد أن نختم مقالتنا هذه بالإشارة إلى تقرير الأمم المتحدة المعلن في عام 2002 الذي طُرِح كتقرير مهم بعنوان “تقرير التطور البشري العربي” وكتبه علماء اجتماع عرب، وورد ذكره في لقاء مع أحد المحللين في شبكة CNN الأمريكية مؤخراً، ويؤكد التقرير أن العالم العربي يعاني من عجز كلي في مجالات شتى، منها: بالمعرفة وبالحرية وبحقوق المرأة، وإن لم يتحرك العالم العربي بسرعة فائقة لمواجهة التحويل العكسي لكل هذا العجز؛ فسيواجهون مشاكل عصيبة، وكل المؤشرات تدلل على تعمق هذا العجز.
وبعد كل هذا هل هناك شك أن فلسفة التخريب لم تطبق بالعراق وفي بعض دول المنطقة وتحديداً العربية؟!