نرجسيّـــــــة
الله خالقها بشر كله عناد نرجسية وصعب يعجبها العجب
مهرة برية ويميزها الجموح ولو مشت تنثر على النار الحطب
عنفوان وعجرفة وعزة وإباء كبرياء وغطرسة وكتلة لهب
الحجي اللي بلسانها يقطر عفاف وفحوى حجي عيونها قلة ادب
جمعت الضد التواضع والغرور والهدوء العايش بوسط الصخب
إن تدنو تسمع للمنية حسها تستل نصل السيف من غمد الهدب
براقة سراقة في وصفها قد أعجزت من قال شعرا او كتب
أوتنأى أظلمت الربوع لفقدها شوق الخلال إلى ذكاء والرطب
تشقى الجموع لرقة وعذوبة تدع الفئام من النواحي في نصب
قد اتعبت صبري بسحر مؤرق والنجم يرقب لا نعاس ولا وصب
قد جمعت من كل حسن حسنها فلها الفخار على جميلات العرب
وبعد بيها تجمعن كيد ودهاء وجمعت الضدين مالح والعذب
لبوة شرسة بثوب انثى من الضباء وحمل ساكت يصبح بلحظة ذئب
وطبع شاهينة اشبكت حضن السماء إتطير حرة ولا تحبن وي سرب
تمثل احيانا عليّ دور البريء وتلعب احيانا عليّ دور المحب
مرة انا وياها نرهم اصدقاء واغلب الاحيان انا وياها حرب
مهرة برية ويميزها الجموح نرجسية وصعب يعجبها العجب
( المفارقة بين صورة المرأة النمطية وصورتها الحديثة في شعر مأمون النطاح )
في معمار قصائد النطاح , نلتمس حضورا سرمديا للمرأة , فهو لم يبخس حق المرأة من حرفه وأي إمرأة ( الصلبة , العنود , القوية , المهرة , الشاهينة , الصلدة , المتمنعة , السومرية الفذة , الي تناصر الرجل وتكن سنده فيضفي كل صفات القوة والإرادة إليها , هو يكره صورة المرأة الضعيفة المنقادة وهذا ما كرره في اكثر نصوصه .
وقد تكون صورة المرأة بصفاتها المثالية التي يسبغها عليها النطاحعلى طوال مسافة القصيدة , رمزا لوطن مفقود واستحضارا لماض ولى ومضى ومحاولة للهروب من واقع فرض عليه , المرأة في نصوص النطاح قد تكون رمزا لصورة الوطن التي يحلم به واغترب عنه , هذا من جانب ومن جانب آخر النطاح يأخذ على عاتقه محاولة زرع الثقة في عمق هذا الكائن الرقيق وإعادة بناؤه بعيدا عن كل عوامل الإحباط والقصور .
النص هنا ينأى عن التقريرية والخطاب الجاهز المباشر متخذا من الوصف وتلاحق الصور الشعرية المصاغة بدقة سبيلا للنظم , وكأنه يتخذ متعمدا معان التعريض وصفة سحرية ومحاولة جادة لتغيير الكثير من القيم التي فرضت على نساء المجتمع العربي عامة والعراقي خاصة , نبدأ النص من عتبته او ثرياه وهو العنوان ( نرجسية ) لنجده يمد القاريء بشحنة قوة وعنفوان يريدها ان تكون صفة ملاصقة لكل أمرأة , هو الوفي الصادق في حبه وهي الملاذ الآمن للفارس السومري المغترب عنوة عن دياره وبلده , هو الخيال في ميدان عينيها , والطفل البريء التابع لها اينما حلت من حارة الى اخرى .
خياله المبدع له عظيم أثر في نصوصه فهو يحول الاشياء الجامدة الى عناصر حيّة حسية , فالخيال لديه يسهم في تشكيل صوره واعادة صياغتها بجمالية مؤثرة .
أحرف من وهج ومعان من نور وعلياء وصور وردية تزاحم ذاكرة المتلقي تلك هي قصائد النطاح التي تملأ الأرجاء عبقا ونورا . ولا ننسَ فضل الخيال والقدرة على ابتكار الصور الواقعية بتشكيل شعري في خلق صورة متكاملة الهيئة يبث من خلالها النطاح مشاعره النفسية والوجدانية حول موقف من موقف الفكر .
إن ابداع الشاعر قد يكون نتيجة حتمية للموهبة اولا ومحاول خلق معادلة متوازنة لتحقيق استمرارية الحياة فيكون الشعر هو الملاذ والمنقذ في تحقيق معادلة التوازن واخفاق جوانب وتجارب قد لا تكون ايجابية مرّ بها الشاعر , فالشعر هو الملاذ والمنقذ في تحقيق معادلة التوازن .
ان البادية تشكل المكان المألوف لدى الشاعر مأمون النطاح والمتعلق او المرتبط بالماضي البهيج , ماضي الشاعر وطفولته التي قضاها هناك حيث عذب الهواء ونقاء الأجواء وقبلها النفوس , ذاك الزمن الذي يرتد اليه النطاح على طوال مسافة النظم عنده .
فالبادية وعفويتها وبساطة الحياة فيها خلقت من ذاك الطفل رجلا صلبا جسورا , رهف القلب يرتديه الوفاء للمكان الاليف وللزمان الطيب ولذكريات جميلة زخرت بها بؤرة التذكر فكانت كنذر مبطن تسخى به الذاكرة متى ما اراد رسم صورة ما ليسرد علينا حدثا هنا ويروي حكاية هناك , فتأتيه المفردات طيعة مرنة بعيدة عن التكلف والاستكراه والاستهجان , وإن اضطر النطاح الى توظيف مفردة صعبة نجده مسرعا إلى توضيح معناها فيزيد ذلك إلقاءه بهاءا ورقي .
إن نصوص النطاح تنتظر الخروج عن التقليدية في النظر إلى القضايا الإجتماعية وأمور الحياة , فهناك رموزا واشارات تجعل من المتلقي عند قراءته لنص الشاعر متحركا خلاقا , إذ تحرك ذهنه وتأخذه إلى أفكار جديدة وآراء مختلفة مغايرة عما كان يؤمن به سابقا , فكل من يقرأ للنطاح تتغير نظرته التقليدية عن الكثير من الامور التي يتناولها في نصوصه , وهنا في نص ( نرجسية ) هو يعرض برنامجا إجتماعيا متكاملا يغير من النظرة الاجتماعية السائدة عن المرأة وتحيد الى رؤية جديدة وفكر جديد يريد للمرأة القوة والتنمر والصلابة .
لنتأمل قوله :
الله خالقها بشر كله عناد نرجسية وصعب يعجبها العجب
مهرة برية ويميزها الجموح ولو مشت تنثر على النار الحطب
عنفوان وعجرفة وغيرة وإباء كبرياء وغطرسة وكتلة لهب
لو تدبرنا أمر المفردات ( عناد , نرجسية , صعب الإرضاء , مهرة برية , جموح , عنفوان , وعجرفة , وعزة وإباء , وغطرسة ) .
هي إمرأة من نار ولهب , وكأنه يمنح المتلقي معطيات تقود الى التعرف على رأي النطاح بالمرأة , الرأي الذي غيّر نظرة الكثيرين , فنصوص النطاح تستفز قناعة المتلقي وهو يحاول الفهم الجديد وتغيير القناعات السائدة , هو يخرج المتلقي من إنغلاقاته الفكرية إلى آفاق جديدة قد تكون مدهشة , وهذا ما يسمى بلغة النقد العجائبية , وكأنه يبني نصه ليحدث ( الدهشة ) عند المتلقي بما يطرحه من فكر جديد يخلق تفاعلية واعية تستفز قناعات المتلقي ويخترق أفق التوقعات بانزياح يفتح آفاق جديدة امام المتلقي فالمرأة والمرأة تحديدا جاءت في قصائد النطاح بصورة مغايرة تماما فيه عند بقية الشعراء ولا ابالغ إذا قلت الشعراء جميعا .
هو اراد لها القوة والإرادة والتمنع والصلابة لا لتكن معشوقة وحسب , بل لتكن هي وهي لها وبها ولذاتها , فكانت قصائده عنها تجسد لحظة إبداع استغل ناظمها طاقات اللغة التعبيرية ورموزها بحرفة ومهنية عالية ساعدته الموهبة فنظم وأبدع , فهو بمفرداته وما تنطوي عليه من معان وسيمة يحول اللغة الشعرية الى لغة خلق وابداع وتكامل حيث ينقلنا بمفرداته اللغوية الى لغة خلق تتجاوز الحدود الضيقة للفظة ليمنحها بعدا اكثر مما تحمله على الحقيقة .
وفي هذا النص تحديدا نجد توظيفا ذكيا للمعان حيث يمنحنا المعنى وصفة في سطور ضدية متعاكسة تحمل جمالية بنائية فتكون صورا فعالة اليه من خلال المرأة الرمز , للتغيير والتجديد سعيا وراء الافضل , في معالجة اجتماعية صادقة إذ يتحدث عن تعرية الكون بعوامل التفكك والتصدع وتغيير القيم الى عالم الفضيلة المتكامل وإن كان عالم الامل والاحلام لكن النطاح يسعى على الدوام إلى تحقيق هذا الحلم وعساه يصل فهو يشتغل وفقا لتكثيف المعنى بمفردات قليلة وجيزة بذكاء فكري مميز , ومن بين الصور المتناقضة التي رسمها النطاح بكلماته :
الحجي اللي بلسانها يقطر عفاف وفحوى حجي عيونها قلة ادب
هذا البيت من اروع واجمل ما قي من شعر يحمل معان متضادة رائعة وبحرفية مميزة , يمتاز بها الشاعر عن سواه .
وقوله :
جمعت الضد التواضع والغرور والهدوء العايش بوسط الصخب
صورة ولا اروع إذ هي عفيفة متزنة ولكنها المشتاقة الولهى فحديث عينيها يسفر عن فحوى تخالف في مضمونها ذاك المظهر الخارجي المتسم بالإتزان هي عاشقة في ثوب راهب .
إن أثر المرأة في شعر النطاح لا يمكن اخفاؤه مطلقا وهذا ديدن الشعراء جميعا , لكن النطاح قد يختلف عمّن سواه فهو ينظر إلى المرأة بنوع من القدسية والإكبار والفخر بها فيبثها شحنة من الطاقة الإيجابية والتحفيز على الثقة بالنفس والكبر .
حقيقة هو من الشعراء القلائل الذين يبثون في اشعارهم عن المرأة هدفا واحدا هو ترسيخ مفهوم الثقة بالنفس هو يتمنى للمرأة بل يريد لها القوة ثم القوة ولا شيء غير القوة والشجاعة , والعنفوان والكبرياء .
ذكر رولان بارت ما مفاده ان المؤلف يقيم ويسكن في النص , وهذا ما أجده يكمن في شخص مأمون النطاح , إذ هو الشاعر الذي يمكث عنده القصيد حتى تستوي هيأته الأخيرة , يحذف ويشذب النص ليظهره بصورته التي نراها وهو بذلك يشابه عادة الأولين الشعراء الجاهليين واصحاب مدرسة ( الشعر الحولي المحنك ) لزهير بن أبي سلمى .
إن نصوص النطاح تبقى عالقة في ذهن المتلقي فهي تمتلك فنية تشكيلية عالية .
وفي نصه ( نرجسية ) تحتل المرأة البؤرة المتسلطة ونقطة التمركز في النص , هذا النص الذي حمل من الأضداد والتناقضات الشيء الكثير واحتل الساحة الأوسع للمعنى وضده , والصورة ونقيضها من ألف القصيدة حتى ياءها , والنطاح بنفسه يقرُّ بهذا لأكثر من مرة في مثل قوله :
جمعت الضد التواضع والغرور والهدوء العايش بوسط الصخب
وأيضا :
وبع بيها تجمعن كيد ودهاء وجمعت الضدين مالح والعذب
وأيضا :
لبوة شرسة بثوب أنثى من الظباء وحمل ساكت يصبح بلحظة ذئب
لاحظ مفردة ( الضد – الضدين ) وكذلك تقابل الصور الشعرية وتناقضها فهي المتواضعة الهادئة لكنها صاخبة وكذلك ( الكيد والدهاء ) و ( المالح والعذب ) و ( الحمل الوديع والذئب الغادر ) لكنها ثنائيات بمعان متضادة اضفاها الشاعر صفات رسمية لمحبوبته المتمنعة واسبغ عليها من حلو الصياغة وقوة السبك ضمن نسق شعري جميل سلس وبسيط خال من التكلف والاتغراق بمفردات صعبة تتوه العقل .
لقد اجهدت صبره تلك الحبيبة , المغرورة بدهاءهاوصخبها .
قد اتعبت صبري بسحر مؤرق والنجم يرقب لا نعاس ولا وصب
إن لغة النطاح مميزة بالموسيقى والايقاع والتعبير عن مكنون النفس وقضايا المجتمع بطريقة سلسة والموسيقى الشعرية تحديدا , تعكس رهافة الحس ورقة مشاعر الشاعر ودقة انتخابه الالفاظ المتناغمة العذبة المتلائمة بعضها مع البعض الآخر معرة عن معنى معين يريده الشاعر ويبغي إيصاله الى المتلقي وقضية الذوق الموسيقي اشبه بالوحي والإلهام بل هي أشبه بالموهبة الإلهية الفطرية إذ اقترن الشعر العربي على امتداد تاريخه بالوزن الذي هو انتظام الالفاظ في ايقاع موسيقي خارجي والوزن الشعري يمتاز عن غيره بأنه وزن تتعاقب فيه الحركات والسكنات التي تشكل الاسباب والاوتاد والفواصل وتكرارها على نحو منظم إذ تتساوى فيها عدد حروف المقاطع مع أزمنة النطق في كل فاصلة من فواصل الإيقاع و فالإيقاع أساس القول الشعري بل هو قوة حية تربط بين الذات والآخر , وهذا لا يحدث إلا من انسجام موزون متساو .
وقد تحلى نظم النطاح بالمخيلة الخصبة وجمال التصوير وحملت أشعاره المكونات المجازية جميعا مثل التشبيه والكناية والرمزية والاستعارة , كلها تظافرت معا في تشكيل الصورة الشعرية الممزوجة بالمحسوس والملموس والواقع مع الخيال .
تبقى المرأة الميدان الخصب الذي لا ينضب لقول الشعر , تلك المهرة الشرسة البرية , وهذا التوظيف الذي لرمز المرأة يخلف تناصا شعريا واضحا لدى الشاعر ولا شك إن التناص اليوم هو بمثابة أداة مفهومية وعلامة رواق إيبستمولوجي , يشير الى موقف والى حقل مرجعي , فهو تعالق النصوص مع بعضها البعض بموضوع معين , بمعنى آخر تبادل الحوار وإيجاد علاقات وروابط بين عدة نصوص في موضوع معين هو تفاعل نصي ولكن ذلك لا يمنع الإبداع والتميز ففي نصوص النطاح المختلفة نجد بصمة للمرأة وبصور مختلفة متباينة لكنها جميعا تحمل المعنى نفسه وهو ( المرأة القوية ) مما يبرهن على مقدرته وتمكنه وتفرده في سبك الصور الشعرية فضلا عن مخيلته وسعة ثقافته ودقة صياغته للمفردة , فتتنامى الصفات في قريضه يتسم بوحدة الموضوع واتحاد النص فالابيات متحدة المعنى كل منها يعبر عن المعنى العام ويفسره بطريقة يكمل السابق فيها لاحقه.
مأمون النطاح شاعر يرسم بالكلمات ..